سياسية
أخر الأخبار

سوداني هزّ (تنظيم القاعدة) .. جمال الفضل الشاهد الأول ضد ابن لادن 

 

 

 

من قلب الظلال التي وُلدت فيها «القاعدة»، ومن داخل الغرف المغلقة التي رسمت خرائط الدم والسياسة، يخرج صوتٌ واحد ليكسر جدار الصمت ليس صوت محلّل أو مؤرخ، بل «الشاهد الأول» نفسه الرجل الذي وقف أمام القضاء الأمريكي ليعيد رسم صورة تنظيمٍ طالما ظنّ العالم أنه يعرفه هذا الكتاب ليس مجرد سردٍ لوثائق ومحاضر، بل رحلة داخل الذاكرة السرّية للعنف، حيث تتقاطع السياسة بالإيمان، والخيانة بالنجاة

في كتابه «الشاهد الأول ضد ابن لادن» الذي صدر حديثاً، يختار الصحفي محمد عبدالعزيز أن يكتب من داخل الحكاية لا من خارجها؛ أن ينصت إلى الأصوات التي حاول التاريخ إسكاتها، وأن يلتقط ما سقط عمدًا من بين سطور الروايات الرسمية.

العنوان، الذي يبدو كبيانٍ قضائي، يتحوّل بين يديه إلى مفتاحٍ لفضاء سردي عميق، يكشف وجهاً آخر لتنظيم القاعدة، وللجغرافيا التي احتضنته — من كابول إلى الخرطوم، ومن أسمرا إلى فرجينيا — حيث السياسة والدين والمصالح تتشابك في لعبةٍ لا مكان فيها للبراءة المطلقة

يروي الكتاب سيرة السوداني جمال الفضل، أول من قدّم شهادته ضد ابن لادن، لا كخائنٍ أو بطل، بل كإنسانٍ انهزم أمام ذاته قبل أن ينهزم أمام التنظيم. وعبره، تتجلى القاعدة كشبكة بشرية معقّدة، تتحرك في الفراغات التي تتركها الدول حين تنهار، وتجد في هشاشة السلطة تربةً خصبة للنمو

ويتكوّن الكتاب من ثلاثة فصول، يتضمّن كلٌّ منها عناوين فرعية متشعّبة :

فالفصل الأول (من صفحة 12 إلى صفحة 44) :

يستعرض جانباً من السيرة الشخصية لجمال الفضل – والده وأمه وإخوته وأخواته – ورحلاته إلى السعودية وأمريكا وأفغانستان والقاهرة. كما يتناول حادثة سرقته مبلغاً مالياً من والده، وأجواء الجهاد في أفغانستان، وعلاقة أمريكا بالمجاهدين، وأسماء المؤسسات التي كانت تُعرف بـ«مراكز الخدمات» المنتشرة في العالم، ومسؤوليها ومهامهم، ومعسكرات التدريب مثل «معسكر الفاروق»

ويقدّم هذا الفصل إشارات إلى ظهور اسم «القاعدة» وتبلوره، واستعراض الهيكل التنظيمي للتنظيم والجماعات التي كوّنته، مثل «جماعة الجهاد» و«الجماعة الليبية المسلحة»، إضافة إلى أنواع التدريب والأسلحة والأسماء الحركية — ومنها الاسم الحركي لجمال نفسه: «أبو بكر السوداني»

أما الفصل الثاني (من صفحة 45 إلى صفحة 143) :

فيستعرض دخول القاعدة إلى السودان، بدءاً من الزيارة التفقدية ومقابلة الترابي، ثم العلاقة مع الجبهة الإسلامية القومية، كما يتناول البعد الأممي للقاعدة، وأعمال بن لادن الاقتصادية الخاصة، واستثمارات التنظيم ومؤسساته

يركّز هذا الفصل أيضاً على موقع جمال الفضل من تلك الشبكة، وعلى أكاذيبه وبدايات الخلاف بين القاعدة ونظام الإنقاذ، ثم سفره إلى إرتريا ومقابلته مسؤولي السفارة الأمريكية هناك، وصولاً إلى يأسه وخيانته، ووصول أسرته الصغيرة إليه في أمريكا، ونزواته وشهواته

يُعدّ هذا الفصل الأكثر بلاغة في الكتاب؛ ففيه تتضح ملامح شخصية أسامة بن لادن، وصورة القاعدة، وشخصية الفضل. كما يتناول ملابسات وضع أمريكا ضمن أهداف القاعدة، وإطلاق ما عُرف بـ«الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين»، وقصة صفقة اليورانيوم، وأسماء بعض المنظمات الخيرية ذات الصلة بالتنظيم

وفي الفصل الثالث (من صفحة 144 إلى صفحة 246) :

يستعرض مغادرة الفضل السودان إلى سوريا باسمٍ مستعار هو هشام، ثم إلى الأردن، ومنها إلى إرتريا في محاولة للالتحاق بالمعارضة السودانية هناك. كما يروي ذهابه إلى السفارة الإسرائيلية في أسمرا، وتعاطيه الخمر وولعه بالنساء، ثم لجوءه إلى السفارة الأمريكية التي وفّرت له الحماية

حيث يتناول هذا الفصل إعلان أمريكا الحرب على بن لادن، ودخول الفضل أراضيها، وخلع زوجته للحجاب، وظهور اسم السوداني عبدالباسط حمزة، إلى جانب قصة مخلفات حرب أفغانستان من الأسلحة، وقلق أمريكا من انتشارها. كما يورد تفاصيل وفاة والد الفضل وطفله الرضيع، وتفسيره لذلك بوصفه «انتقاماً إلهياً» لخيانته

وفي هذا الجزء، تحضر أمريكا بثقافتها وقوانينها، فنقرأ عن محاكمة الفضل، وحجج الدفاع عنه، والأشخاص الذين ورّطهم – مثل السوداني محمد سليمان المعروف بـ«أبو مصعب السوداني» – وعن قانون حماية الشهود، ولائحة الاتهام ضد بن لادن

في هذا العمل، ينجح عبدالعزيز في إعادة تفكيك الأسطورة، مقدّماً سرداً متعدّد الطبقات، تتقاطع فيه السياسة بالتاريخ، والأخلاق بالأمن، بلغةٍ تجمع بين الصرامة التحليلية والدهشة الأدبية ليس الكتاب عن الإرهاب فحسب، بل عن كيفية صناعة المعنى حين تضعف الدولة، وكيف تتحوّل الفكرة إلى سلاحٍ إداري، والخوف إلى سلعةٍ سياسية

يكتب المؤلف من موقع من عاش القصة لا من موقع من قرأها، كاشفاً أن ما نظنه «حدثاً من الماضي» لا يزال يتحرّك بيننا – في الخطاب، والتعليم، والذاكرة الجمعية وفي النهاية، لا يمنح الكتاب أجوبة، بل يزرع أسئلة :

أسئلة عن الهوية والولاء، عن الدولة والفراغ، وعن الثمن الذي ندفعه حين نصمت طويلاً أمام ما نعرفه!!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى