
مكي المغربي
لا أشك اطلاقا في مشاعر د. أماني الطويل تجاه السودان، بل أكاد أقول هي متألمة أكثر مني لأن شعور المرأة بالمآسي أكثر من الرجال، وخاصة أنها ابنه النيل وشقيقة السودانيين. ولا اعتقد أنني بصدد تفنيد حديثها، لأنه لن يؤثر في الرأي العام السوداني، ولا الجيش، ولا الرئيس البرهان، ليس لأن أماني قليلة الوزن، بل هي باحثة ومفكرة من الوزن الثقيل والدرجة العالية، ولكن بسبب أنها في اللحظة التي أوردت مفردة اعتراف الجيش السوداني بالهزيمة خرجت من الرادار واختفت من التأثير تماما. هذه المفردة أبطلت أي جدوى لحديثها، وحتى المقارنة بأن جمال عبد الناصر اعترف بالهزيمة هو قياس مع الفارق، لأن حرب 1967 كانت بين جيوش نظامية، لم يدخل جندي اسرائيلي بيت مواطن مصري ليغتصب بناته امامه ثم يرديه قتيلا، ولا يبقى إلا اخاهم الذي هو الان في القتال، وهذا حدث في السودان، اسرائيل لم تمولها دول عربية تزعم أنها شقيقة وحبيبة، ولكن في حرب السودان حدث كل هذا، وأسوأ وأبشع، والجرح جد غائر ونازف، والتراجع عن المواجهة عبر الجيش سيؤدي الى تشظي المواجهة على أفراد ومجموعات، وظهور ما لا يحمد عقباه، نعم التراجع انتحار وطريق فوضى عارمة.
ولذلك قرار الاستسلام ليس بيد البرهان ولا الجيش نفسه، إذ تختلف تركيبة السودان عن مصر تماما، حتى الصف المقاتل للمليشيا فيه أهل الدم من ابناء وحركات دارفور الذين غدر بهم الاشقاء والاصدقاء والجيران إلا مصر ومعها قليل، غدر بهم العرب والعجم وتركوا أطفالهم ونسائهم يأكلون العلف لمدة عامين، تحت القصف، ومن خرج من الحصار يقتل، ولما أدخل الطرف الممول للحرب مرتزقة من كولومبيا وليبيا واثيوبيا وجنوب السودان، والاسلحة المحرمة دوليا، وانشأ ما يسمى صندوق القتل، جاء الناس يتحدثون عن اغاثة لهم، وشرعنة لوجود الجنجويد لاطعامم، وأن يقر الجيش السوداني بذلك، ويطعن حركات دارفور في ظهرها، ومن أصدق ما قاله د. جبريل إبراهيم وزير المالية ورئيس حركة العدل والمساوة “الموتى لا يأكلون” بمعنى أنكم تركتموهم حتى تداهمهم المليشيا وتقتلهم لتتحدثوا عن ادخال الاغاثة لهم.
المقصود طبعا، ليس المواطنين ولا الشعب السوداني، المقصود من هكذا هدنة هو استمرار (المخطط العدواني الاستيطاني)، الذي يقوم على تجريف السكان من أرضهم وتوطين مرتزقة، واحداث تغيير ديموغرافي، واقامة كيان ضرار موازي للدولة الوطنية، لتكون جزءا من غلاف اسرائيل الكبرى (لدي مقال في ذلك بعنوان مصطلحات حرب الكرامة) والمطلوب من البرهان هو الاذن بذلك مقابل وعود سراب، واكاذيب، ولا مانع لديهم -بعد الاستسلام المزعوم- من دعم حملة تخوين ضد البرهان والجيش من ذوي الضحايا والقبائل التي طردت للبوادي لتكون خنجرا جديدا في خاصرة البرهان والجيش ووادي النيل كله، لذلك فهي حاليا هدنة (عالية السمية)، ربما تتغير لو ضغط العالم كله علي رعاة المخطط، وليس على البرهان والجيش.
للاسف يقارن الناس بين حديث أماني وحديث بكري الجاك من قحت أو صمود، بعد سقوط مدني إذ قال “الجيش السوداني عليه أن يستسلم مثلما استسلم الجيش الياباني في الحرب العالمية الثانية”، وكأن المقصود من إسقاط الفاشر هو ملحق الاستسلام الذي رسب فيه الجيش في مدني.
وللغرابة بعد استرداد مدني والجزيرة لم يطالب بكري الجاك المليشيا بالاستسلام لانها هزمت وطردت.
إذن فالمقصود هو استسلام الجيش .. فقط الجيش.
لا علاقة لحديث بكري بحديث أماني.. لأن بكري دافعه التآمر والارتزاق من ممول المليشيا، وأماني دافعها الاشفاق والاجتهاد بالرأي وفق خبرة.
وفي كل الأحوال، العقلية التي تدير مذابح الفاشر هي ذاتها التي تدير مذابح غزة، ولو شحذوا سكينا لذبح السودان، فقد شحذوا ثلاثة سكانين لمصر، وهم صاروا أكثر صراحة في الحديث عن إسرائيل الكبرى، واستباحة الأجواء العربية وقصف المدن.
هذه المفاوضات المعروضة حاليا ليست لانهاء التمرد بل لشرعنة التمرد، وما يحدث حاليا من حكومة السودان الى جانب المواجهة العسكرية الحامية، هو عمل سياسي دبلوماسي مضني لتصحيح لمحتوى التفاوض، أو ما يسمى مشاورات حول أجندة التفاوض، عملية معقدة ودقيقة، لا يستحسن معها شيطنة الحكومة السودانية واستخدام أوهام فزاعة الكيزان وغير هذه من الدعايات التي تأسست عليها الحرب من الأساس، وجعلت مرتزقا بدويا يأتي السودان من اقصى صحراء النيجر ليسرق متجر مواطن سوداني ويقتله ويقول له (انت كوز!).
على أصدقائنا من اليسار في مصر والسودان أن ترتقي عقولهم حتى يكونوا ضد هذا المرتزق الجاهل الذي يسفك الدم بناء على كذبة بنيت على فزاعة، على اليسار أن يتحمل مسئوليته في ضرب هذه الفزاعة حتى ولو كان هذا مريرا عليه بسبب الخلافات الايدولوجية، والتاريخ يسجل المواقف.
على العموم، بيننا وأماني الود والاحترام، واذا أخطأت احترمناها من أجل مصر، وإذا كرهتنا أحببنها من أجل مصر، ولا عاش من يفرق بين أبناء النيل.
والرجاء من الجميع تفويت هذه الفرصة وزيادة التواصل والتضامن.



