التجديد خيار القوة: لماذا كانت استقالة البروفيسور قرشي محمد علي خطوة في الاتجاه الصحيح؟

بقلم السفير د. معاوية التوم أستاذ.مشارك بالجامعة الوطنية
تعليقا على ما أورده بروفسور. بكري موسى عبد الكريم في مقاله (التجديد ضرورة … لا نقمة). كتب مشخصا بتحليله العقلاني المتعمق أسباب ابتعاد بروف قرشي عن مقعد رئاسة الجامعة الوطنية بطوعه واختياره. كونه الصديق الأقرب الذي ربطته علاقة ممتدة ووشائج وثيقة لعقود خلت، وله وداد مبذول وتلاقي كبير معه في الأفكار والمعارف والرؤية الكلية التي ينطلق منها منذ تاسيسه لفكرة الجامعة في بدايات التسعينيات كمؤسسة خاصة كان يملك ٩٠٪ من أسهمها تراجعت الي ٣٪ حاليا برغبته في بسطها للمنفعة العامة. حيث انطلقت فكرتها الأساسية بمنظور (Social Enterprise )وليست بالفكرة الربحية المطلقة ، ولا كان يريدها منصة ترتبط باسمه او أسرته. لذلك لم يكن إعلان الاستقالة حدثاً عادياً في المشهد الأكاديمي السوداني. فالرجل الذي قاد الجامعة لعقدين من الزمان، وأسهم في تحويلها إلى واحدة من أهم مؤسسات التعليم العالي في البلاد، يمثّل رمزاً مؤسساً وصاحب مدرسة خاصة غير تقليدية، له بصمة لا تُمحى في بناء منظومة تعليمية صحية متنوعة راسخة. لذلك بدا طبيعياً أن تخرج أصوات متحفظة، تتمسّك ببقائه، وتخشى أن يؤدي رحيله إلى اهتزاز الاستقرار والنجاح الذي سطره.
لكن القراءة العميقة لما جرى تكشف أن الاستقالة لم تكن خروجاً اضطرارياً، ولا لحظة انقطاع عن مشروع استوى وبلغ مداه، بل كانت قراراً واعياً في صلب المدرسة التي ينتمي إليها البروفيسور قرشي نفسه؛ مدرسة تؤمن بالتحديث، وتقدّس العمل المؤسسي المنفتح، وترى أن التغيير ليس تهديداً، بل شرطاً للنهوض والابتكار والمواكبة.
قيادة تدرك دورها… وتعرف متى تسلّم الراية
لم يكن البروفيسور قرشي يوماً من أولئك الذين يربطون مصير المؤسسات بالكراسي. فقد ظل، طوال فترة رئاسته للجامعة الوطنية، منادياً بضرورة منح الجيل التالي فرصته، وضرورة انتقال القيادة في توقيت يسمح بتجديد الأفكار وضخ رؤى ودماء جديدة. هذه الروح ظهرت جلية في قوله الصريح لزملائه:“يا جماعة أنا فهمي كمل… واستمراري يزيد أخطائي ويأكل من رصيد نجاحاتي.” فمثل هذا الاعتراف، في بيئة اعتادت التمسك بالمناصب حتى آخر لحظة، لا يصدر إلا من عقلية واثقة تعرف أن أعظم ما يخلّده القائد هو أن يبقى مشروعه قائماً بعد رحيله، لا أن يُدفن معه. وان يغادره ليرى ثمرة عطائه شعلة متقدة من العطاء والحفز والتمدد الأفقي والراسي.
العمل المؤسسي أقوى من الأفراد
لقد أثبتت الجامعة الوطنية خلال السنوات الماضية أنها مؤسسة متكاملة وليست مشروع شخص واحد. فمجلس إدارتها ظل يعمل بتماسك واتساق، والنظم الأكاديمية صُمّمت على أسس تضمن ديمومتها، والبرامج توسّعت بطريقة تراعي معايير الاعتماد والجودة، اضافة الي التدريب وبناء القدرات . ولها منظومة رقابة وتقييم دولية معتبرة، لذلك كان من الطبيعي أن تتحول استقالة المؤسس من مصدر قلق إلى فرصة لإعادة ترتيب البيت الداخلي، وتقييم التجربة، والتخطيط لجولة جديدة من التطوير والانطلاقة المستبصرة.
اختيار البروفيسور أحمد حسن فحل… استمرار للمشروع لا انقطاع عنه
لم يتخذ قرار اختيار رئيس جديد للجامعة بصورة ارتجالية أو فردية فقد ظل البروفيسور قرشي على مدى اكثر من عام يتشاور مع مجلس الإدارة ومع المقربين منه واصدقائه ، يراجع ملفات المرشحين، ويبحث عن الشخص الذي يحمل مواصفاته لقيادة المرحلة المقبلة دون المساس بروح المؤسسة أو رسالتها. وهكذا وقع الاختيار على البروفيسور أحمد حسن فحل؛ اسم أكاديمي رصين، وصاحب خبرة مهنية واسعة، وعقلية متقدة وأحد الذين يجمعون بين صلابة العلم وتواضع القيادة في سمت فريد فالفحل ليس غريباً على مدرسة قرشي؛ بل يشبهه في هدوئه، ورؤيته، وقدرته على إدارة التغيير دون ضجيج. ولذلك ينظر إليه كثيرون باعتباره استمرارية طبيعية للمسار الذي رسمه المؤسس، لا قطيعة معه او تنافر.الرجل له ارث اسري عريق لجده طبيب العيون الأشهر في بلادنا (د. حسين) ، ورصيد أكاديمي باذخ ، بمدرسة خلاقة وروح مقتحمة وارادة نافذة.
تيار محافظ في مواجهة روح التحديث
ليس جديداً أن تعترض بعض الأصوات على التغيير محبة ويقينا فيما صنعه المؤسس، فهناك تيار تقليدي ظل يفضّل بقاء البروفيسور قرشي في منصبه اعتقاداً بأن الجامعة لا تنهض إلا به وأن خروجه سيقودها للمجهول. لكن هذا كلّه يتناقض مع الفلسفة التي قامت عليها الجامعة الوطنية منذ يومها الأول: التجديد، والمرونة، والاستعداد للتطوير المستمر، والثقة في تبادل الخبرات والتجارب ووصل الأجيال في سلاسة ويسر، وإحسان الظن في الخلف ومنحه فرصته في إثبات ورسوخ عقيدة الخلافة الذكية، والحق أن أخطر ما يواجه المؤسسات المدنية ليس التغيير، بل الخوف منه. أما التمسك بالمناصب فهو الطريق الأسرع نحو الترهل وفقدان البريق. أما قرار الاستقالة المدروس، متبوعاً بانتقال سلس للقيادة، فهو سلوك يليق بالمؤسسات التي تحلم بأن تكون جزءاً من مستقبل التعليم العالي، وأن تساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال تحديث البرامج والتوسع الأفقي والرأسي في التخصصات. وقبول التحدي وصناعة المعجزات رغم الواقع الذي تعيشه البلاد، وحقل التعليم العالي، والعقبات التي تعترض المسير، يظل الامل والثقة بالله والاعتداد بالسلف محفزات والتوق للصعود و المراقي والإنجاز.
الجامعة الوطنية… نحو مرحلة جديدة
إن ما يجري اليوم في الجامعة الوطنية لا يشير إلى اهتزاز أو تراجع ، بل على العكس هو تنامي الوعي القيادي وإلى نضج مؤسسي مبكر ، سيضع هذه التجربة محل اعتزاز وقدوة لنظيراتها في حقل التعليم العالي في بلادنا والاقليم. فالمؤسسات الراسخة هي التي تتجاوز أفرادها، وتبني آليات قادرة على الدفع إلى الأمام مهما تغيّرت الوجوه أخ وتوارت الأفكار.
فاستقالة البروفيسور قرشي ليست نهاية، بل بداية مرحلة جديدة من التحديث وعنوان لاختبار مشرف، واختيار البروفيسور أحمد حسن فحل يعبّر عن وعي عميق بأن المشاريع الناجحة لا تتوقف عند شخص واحد، وإنما تتجدد بقيادات تعي مسؤوليتها وتملك القدرة على الإضافة، وتطوير النهج في قوالب تعي تبعات الانتقال وفي النهاية، يبقى الأهم هو أن الجامعة الوطنية تواصل رسالتها: خدمة الإنسان السوداني، ورفع جودة التعليم، وحشد الطلاب المميزين والمبرزين وحفزهم نحو القيم والمعاني الكبيرة للمساهمة في بناء سودان أكثر قدرة على مواجهة تحدياته بقدرات أبنائه وبناته. وتوفير كادر تعليمي لا يقف عند بوابة الجامعة الوطنية يرفد المؤسسات الاخري ويجود عليها بالتجربة الشاخصة بالنجاح والتوهج، حتى في زمان الشدة والابتلاءات. وما دامت روح المؤسسية وحكمة التغيير باقية ورجالها موجودون، فإن المستقبل سيكون أوسع وأجمل وأنضر مما مضى ونتصوره. وأن بروف قرشي أرسى نهجا وطنيا خالداً في تبادل السلطة والقيادة بمعيارية فريدة في البناء المستدام والنجاحات تستحق التكريم لانها نموذج وطني نقي من مزالق الذات وحظ النفسي سماحة تشبهه .. هذا المثال بحاجة أن نتوقف عنده دراسة وتحليلا، لنستقي منه العبر والدروس ونستشرف به المستقبل، لسودان ما بعد الحرب.



