
بقلم: مصطفى عوض
في 10 نوفمبر 2021، أصدرت الحكومة السودانية القرار رقم 90، الذي مثّل نقلة نوعية في إدارة عائدات التعدين. لم يكن القرار مجرد إجراء مالي، بل كان إعلانًا رسميًا عن حقوق المجتمعات المنتجة للثروة — خاصة في مناطق الذهب التي طالما استُنزفت بينما ظل أهلها يعيشون في فقر مدقع.
حدّد القرار آلية واضحة لتوزيع العوائد:
70% من زكاة التعدين تذهب إلى المحلية المنتجة،
30% تُودع في رئاسة الولاية،
مع إلزام كل منهما بفتح حسابات مخصصة، خارج أي تلاعب، لتمويل مشاريع تنمية محلية: مدارس، مستشفيات، طرق، مياه، ودعم أسر المُستَنزَفين.
كان القرار تطبيقًا عمليًا لـ”المسؤولية المجتمعية” الدولية، وتحقيقًا لمقاصد الزكاة: “تُؤخذ من أغنيائهم، فتُرد في فقرائهم” — كما ورد في الحديث النبوي الشريف، المتفق عليه.
لكن في ولاية نهر النيل — التي تُعد من أغنى ولايات السودان بالذهب، وتحتضن منطقة “العبيدية” التي أطلق عليها البعض لقب “سنغافورة السودان” — تحول هذا القرار من وثيقة إنقاذ إلى وثيقة غموض وسرقة منظمة.
أموالٍ مجهولة
في 30 ديسمبر 2023، صدر توجيه من مدير المكتب التنفيذي لوزير المالية يُلزم بإيداع زكاة التعدين في حسابات الأمناء العامين لديوان الزكاة بالولايات — حسابات غير معلنة، غير خاضعة للرقابة، وغالبًا ما تُفتح في بنوك مختلفة خارج إطار بنك السودان، دون أي شفافية أو إفصاح.
لم يُغيّر التوجيه توزيع النصيب — فظل 70% للمحلية و30% للولاية — لكنه ألغى الآلية التي كانت تضمن وصول الأموال إلى المستحقين.
النتائج كارثية:
1. محلية بربر — أرض الذهب وفقرٌ مدقع
رغم أن منطقة “العبيدية” في بربر تُنتج كميات هائلة من الذهب — وفق مصادر داخلية، بلغت عائدات زكاة التعدين فيها خلال 8 أشهر فقط (يناير–أغسطس 2025) ما يقارب 3 تريليونات جنيه سوداني — لم يُنفَّذ فيها أي مشروع زكوي واحد منذ 2023.
بينما في محليات أخرى بالولاية، نُفذت مشاريع: توزيع مواشي، متحركات نقل، ومعاصر زيوت — في عامي 2024 و2025.
2. أين ذهبت الأموال ؟
وفق مصادر داخل ديوان الزكاة بولاية نهر النيل، يستقطع الأمين العام للديوان 60% من إيرادات زكاة التعدين — دون أي سند قانوني.
أما الشركة السودانية للموارد المعدنية — المكلفة بالتحصيل — فلا تأخذ أي نسبة، لكنها تُودع الأموال في حسابات مجهولة، فتصبح الأموال في “حالة غياب” — لا تُرى، لا تُحاسب، ولا تُوزع.
3. غياب المجالس الزكوية
لم تُشكّل مجالس زكوية في أي من وحدات بربر أو نهر النيل — رغم أن القرار 90 يُلزِم بذلك. هذه المجالس هي الضامن الوحيد لوصول الزكاة لمستحقيها، وليست أداة للتحكم من قبل البيروقراطيين.
4. إحصاءات تُذهل العقل
عائدات زكاة التعدين في نهر النيل خلال 8 أشهر (يناير–أغسطس 2025): 24.82 تريليون جنيه.
نصيب بربر وحدها: 3.287 تريليون جنيه.
بينما عائدات زكاة الزروع والبيوع في “العبيدية الفاروق” خلال 9 أشهر: 150 مليون جنيه، وصُرف منها 174 مليونًا — أي أن الدولة دفعت من خزانتها لدعم مشروعات زكوية في منطقة واحدة، بينما تُنهب تريليونات من زكاة الذهب.
نحن لا نطلب مساعدات. نطلب فقط ما هو حقنا. فنحن لا نستفيد من الذهب الذي يُستخرج من أرضنا، بل نعاني من تبعاته: تلوث المياه، تدمير الأراضي، انقطاع التعليم، وغياب الرعاية الصحية.
في بربر:
لا توجد مدرسة مجهزة بالكامل منذ عقد.
لا يوجد مستشفى مركزي يُعالج حالات التسمم بالزئبق.
لا توجد شبكة مياه نظيفة، ولا ممرات آمنة للطلاب.
أما في مناطق أخرى من الولاية، فقد نُفذت مشاريع زكوية لأن هناك من تجرأ على المطالبة.
أما في بربر؟ الصمت، والانحسار، والانقراض.
النداء: لا نريد صدقات… نريد عدالة
ليس هذا مطلبًا سياسيًا.
ليس مطلبًا حزبيًا.
إنه مطلب إنساني وديني وقانوني.
نطالب بـ:
1. إعادة تطبيق القرار رقم 90 تمامًا: إيداع زكاة التعدين في حسابات المحلية، لا في حسابات مجهولة.
2. تشكيل المجالس الزكوية في كل وحدة إدارية — بمشاركة المجتمع، وليس بتعيينات حكومية.
3. إعادة الأموال المنهوبة إلى محلية بربر بأثر رجعي منذ ديسمبر 2023.
4. فتح تحقيق عاجل من قبل المراجع العام، ووزير المالية، ووزير الرعاية الاجتماعية، حول توزيع زكاة التعدين في نهر النيل.
5. نشر تقارير شفافة شهرية توضح:
كمية الذهب المنتج،
كمية الزكاة المستحقة،
المبلغ المودع
المشاريع المنفذة،
الأسماء المستفيدة.
خاتمة: عندما يُصبح الدين وسيلة للنهب
قال رسول الله ﷺ: “إن الله افترض عليكم صدقةً في أموالكم، تُؤخذ من أغنيائهم، فتُرد في فقرائهم” — فكيف تُؤخذ من أغنياء العبيدية وتُرد إلى أغنياء الخرطوم؟
الزكاة ليست تبرعًا، بل حق مكتسب.
والمال العام ليس ملكًا لمن يديره، بل أمانة لمن يحتاجه.
في بربر، ينتظر طفل مريض دواءً، وطفلة تدرس تحت شجرة، وأم تُخبئ قطعة خبز لثلاثة أطفال.
وأمامهم، في مكاتب مغلقة، تُخزن تريليونات — من ذهبهم، لأجلهم — لكنها لا تصل.
من يحمي الأموال من السرقة؟
من يحمي الفقراء من النسيان؟
من يعيد الزكاة إلى أهلها؟
السؤال لا يُطرح لاستفزاز، بل لاستعادة حق اختفي تحت الأنقاض


