عودة (الأخوان المسلمين) للحضن السعودي .. نهاية اللعبة الخشنة وبداية التفكيك الناعم !

الهادي محمد الأمـين
علي غير ما هو معهود ومتوقع رحبت الحركة الإسلامية بالجهود التي بدأ يقودها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وطلبه من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التدخل لحل الأزمة السودانية وإنهاء الحرب وإحلال السلام علي الرغم من أن جهود ولي العهد السعودي الخاصة بالسودان خلال زيارته لواشنطن كانت عبارة عن (إلتماس) من غير أي محاور مطروحة أو حتي نقاط إجمالية ، حيث سارع الأمين العام للحركة علي كرتي – الذي ينشط في الخفاء وتحت الأرض متخذاً ساتراً يزيد عن الـ 6 سنوات – بالترحيب بما أسماه بـ (المسعي الحميد المبارك لصاحب السمو الملكي) و (الموقف السامي لصاحب السمو) وما تبعه من إطراء ومدح لولي العهد السعودي علي شاكلة (وهو يتخذ موقف القائد المسئول في الحرمين الشريفين ليوصل صوت الحق ويجلي الحقائق) ، وهي عبارات تشبه ما اصطلح عليه في الأوساط الشعبية بـ (كسير التلج) فمبادرة محمد بن سلمان جاءت بعد سياسة كسر العظم التي استخدمت مع حركة حماس بعد القضاء علي قياداتها في الصف الأول وحزب الله اللبناني الذي فقد رموزه القيادية والضربات الموجعة التي استهدفت إيران وقضت علي رؤوس كبيرة في طهران وأضعفت حراكها المرتبط بتصدير الثورة إلي جانب الهجوم المستمر الذي يعمل علي الحد من قدرات الحوثيين في اليمن ومحاصرة نشاطهم فموافقة الحركة الإسلامية علي لسان أمينها العام علي كرتي عبارة عن عربون صداقة وإبداء حسن النوايا تعني باختصار قبول التسوية أيّاً كان شكلها وفي ذات الوقت تمنح – علي الأقل – ضمانات وحماية لها مقابل رضوحها لمطلوبات ومستحقات التسوية القادمة التي تقف عليها السعودية وشركائها الإقليميين والدوليين.
(1)
المفارقة تكمن في أن الحركة الإسلامية ورغم أن أعداداً كبيرة من قادتها وكوادرها في مصر التي اتخذوها كمحطة إستقرار وإقامة وينشط كثيرون في القاهرة عبر واجهات متعددة لكن لم ترحب الحركة الإسلامية بأي مجهود ظلت تبذله مصر بشأن الأزمة السودانية طيلة الفترات السابقة، إذاً .. فما هو الجديد؟ الجديد في هذا المضمار أن التسوية والصفقة القادمة تهدف إلي إيجاد وزنة أو معادلة جديدة تكون فيها الحركة الإسلامية السودانية وروافعها والمنظومات المصطفة حولها عبارة عن نسخة محدثة ومنقحة علي غير ما كان سائداً في السابق (حركة إسلام سياسي) أو (أخونة) فهي محاولة لتدجينها وتطويعها علي النحو الموجود في سوريا حالياً (نموذج أحمد الشرع) أو حالة أفغانية ذات حدود في محيط جغرافي معروف من غير إمتدادات إقليمية أو دولية سالبة مثل ما هو الحال في أفغانستان تحكم وفق معادلة جديدة كحكم شيخ شريف أحمد خلال فترة تمكنه كرئيس في الصومال (2009 – 2012) بعد أن كان يقود المعارك تحت مظلة المحاكم الإسلامية خلافاً للنماذج الراديكالية المتطرفة التي تنشط في الوقت الراهن بغرب إفريقيا علي النحو الذي يحدث في شمال مالي وإنعكاساته المحتملة علي موريتانيا ، الجزائر، النيجر، تشاد، ليبيا وغيرها من دول وبلدان وسط إفريقيا ذلك لأن الواقع السوداني بتداعياته الراهنة ربما يمتد إلي مناطق أخري تعاني من الهشاشة والضعف وعدم الصلابة – قد تتأثر بما يجري في البلاد – من دول الجوار والمحيط مثل جنوب السودان، إريتريا، إثيوبيا، تشاد وإفريقيا الوسطي فالتسوية إذا اتجهت لإزاحة الحركة الإسلامية فستتحول إلي رصيد لصالح الجماعات المتطرفة والإرهابية في المنطقة وإذا تمت عملية إستصحابها في التسوية سيكون لها أدوار في فرملة نشاط الجماعات المتطرفة بحكم قربها من هذه الشبكات .
(2)
والشاهد أن انخراط السعودية بثقلها وقوة تأثيرها في الأزمة السودانية يجعل مكونات الحركة الإسلامية تحافظ علي وجودها في المشهد السوداني وفي ذات الوقت تجنب أي مضاعفات قد تنجم في حال إقصائها وإزاحتها أو محاولة إستئصالها بالكلية لتصبح في هذه الحالة فيما بعد واحدة من الأدوات الناعمة بالنسبة لمصر والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية ، ففكرة محمد بن سلمان تقوم علي أساس (تفكيك العقلية العقائدية المتطرفة وتشكيل العقلية السلطوية) التي يمكن التحكم فيها وإحتوائها وترويضها للسير في الموجة العامة دون أن تكون هي عائق للشكل والواقع الجديد بالمنطقة ، والراجح أن مساعي محمد بن سلمان لا تتعارض مع مبادرة الرباعية الدولية لكنها عبارة عن وصفة أو روشتة تؤدي لإبتلاع الدواء والإستجابة للعلاج بعمل تخديري وتفادي المعالجة من غير (بنج) في ذات الوقت الذي تواجه فيه الحركة الإسلامية و (الإنقاذيبن) – حالياً وفي المستقبل القريب – مأزق التحولات والتغيرات التي قد تتسبب في حدوث حالة إنزلاق قضروفي بالنسبة لها ليجئ السؤال بشأن موقعهم ومصيرهم ومستقبلهم في حال إنجاز أي تسويات للأزمة السودانية .. ماهي خياراتهم في مواجهة التسويات التي تطبخ علي نار هادئة ؟! فمن ناحية واقعية لا يمكن تجاوزهم أو تخطيهم في أي تسوية ، وفي ذات الوقت لا يمكن إصطحابهم جميعاً في قطار التسويات ، باعتبار أن التجربة السودانية (الإنقاذ) والأشكال الأميبية التي تناسلت عنها علي النحو الذي نراه حالياً هي آخر تجربة لما اصطلح عليه بـ (حركات الإسلام السياسي) حيث تم تجفيف جميع الحركات الإسلامية حول العالم كان آخرها التجربة التونسية التي انتهت بوضع رئيس الحركة راشد الغنوشي حبيساً داخل زنازين نظام الرئيس قيس سعيد حيث شغل الغنوشي منصب رئيس البرلمان التونسي وصعد علي الجهاز التشريعي عبر إنتخابات عامة وضعته وحركته في مقدمة الصفوف وحجز مقاعد متقدمة في المشهد التونسي ، إلا أن الرئيس التونسي قيس سعيد انقلب علي حركة النهضة (2021) وقرر التضحية بها وتجميد كل سلطات البرلمان الذي يرأسه راشد الغنوشي مع حل وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه عطفاً علي منح الجيش سلطات وصلاحيات واسعة ليكون – علي الأقل – في منطقة الحياد مع وضع الغنوشي قيد الإقامة الجبرية ثم سجنه وأخيراً محاكمته ليتحول إلي سجين محكوم بالمؤبد الأمر الذي تسبب في تعطيل وشل قدرات حركة النهضة خاصة بعد حظر نشاطها كآخر إجراء للقضاء عليها بعد إزاحتها من مراكز النفوذ والقرار والسلطة التشريعية .
(3)
أذاً المفارقة تكمن في أن تجربة حركة النهضة التونسية التي يقف عليها راشد الغنوشي تتشابه إلي حد بعيد مع تجربة الأخوان المسلمين في مصر بعد ثورة الربيع العربي حيث تمكن الأخوان المسلمون من الوصول لأجهزة الحكم والسلطة (2012) منفردين بمؤسسة الرئاسة التي جلس علي كرسيِّها محمد مرسي مع الإحتفاظ بتحالفات وشراكات مع حزب النور السلفي في مجلس الشعب وغرفة الشورى (مجلس النواب) عبر معركة إنتخابات قوية وحامية الوطيس قدمت الأخوان المسلمين كقوة أولي ومؤثرة في الخارطة المصرية عبر ذراعها السياسي (حزب الحرية والعدالة) وفوزه بأغلبية مقاعد البرلمان بعد عقود من التضييق والتنكيل والملاحقات الأمنية لكن انتهي نموذج أخوان مصر بدماء سالت في رابعة العدوية – أحداث المنصة – وذهاب محمد مرسي من القصر رئيساً إلي السجن حبيساً ثم إلي القبر بعد وفاته داخل الزنازين السجن الحربي وكذا الحال بالنسبة للمرشديْن العاميْن للتنظيم العالي للأخوان المسلمين بمصر محمد مهدي عاكف ومحمد بديع (نزلاء سجني وادي النطرون وطرة) ثم تلاشت التجربة تماماً أمام سطوة وسلطة عبد الفتاح السيسي وبطش أجهزته الأمنية حيث وضع حداً نهائياً لتمدد الأخوان المسلمين رغم شرعية صعودهم علي كافة الجبهات عبر إنتخابات عامة جرت في ظل تنافس ديمقراطي مفتوح وتمرين مدني اتسم بالنزاهة ومنازلات تمت في أجواء ليبرالية شفافة انتهت بشفشفتها تماماً في (2013) .
(4)
وتبدو تجربة أخوان مصر وتونس متقدمة من حيث النجاح بصورة أكبر من نجاح تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية بقيادة عباس مدني التي تم وأدها وخنقها قبل وصولها لكراسي الحكم وأجهزة السلطة في مستوياتها العليا وتم قطع الطريق أمام تقدمها وصولاً للمنافسات النهائية بعد إجراءات إلغاء نتائج الإنتخابات البرلمانية (1991) ثم لاحقاً حل الجبهة الإسلامية الجزائرية وحظر نشاطها بالكلية ومصادرة ممتلكاتها والزج بقيادتها كعباس مدني وعلي بلحاج في السجون والمعتقلات، فالأخوان المسلمون في مصر (حزب الحرية والعدالة) نجحوا في الوصول للسلطة لكنهم عجزوا عن الإستمرار فيها لافتقادهم للأدوات و (الشوكة) التي من الممكن أن تعمل علي تثبيت أركان حكمهم وتعزز عملية تمكينهم وتمنحهم قدراً من فرص المناورات والمساومات والتسويات إلي جانب فاعلية الدولة العميقة وقوتها ممثلة في الجيش، المخابرات والبوليس السري هذا إلي جانب إنعدام السند والظهير الإقليمي والدولي وكذا الحال بالنسبة لأخوان تونس (حركة النهضة) التي نجحت في الوصول لأجهزة الحكم والسلطة لكنها فشلت في الإستمرارية بذات الأسباب والعوامل التي حدثت لأخوان مصر هذا إلي جانب عامل مشترك بين مصر وتونس وهو أن البلدين مرتبطيْن بالثقافة الغربية وموصوليْن لحد بعيد وكبير بالدول الأروبية كدولتين حضريّتيْن – خلافاً للواقع السوداني علي سبيل المثال – والذي يتكون من مجتمعات تقليدية محافظة في مقابل ذلك فإن الإنقاذيبن رغم إزاحتهم بثورة شعبية أنهت حكمهم ونظامهم (2019) لكنها لم تُنه (تنظيمهم) بشكل كامل نظراً لإحتفاظه بأدوات تمكين وحضور وأوراق مساومة وتكتيكات تتيح له قدراً من المناورة واللعب في الهوامش لم تتوفر لأخوان مصر وتونس والجزائر كذلك لم تتوفر للقوي السياسية والمدنية السودانية التي جاءت بها وقدمتها الثورة للحكم (2019 – 2021) فمرونة التنظيم الإسلامي استطاعت إمتصاص الهزات والضربات وحولتها لقوة دفع ذاتية وهذه حالة تتشابه مع الحالة الأفغانية حيث انتهت حكومة طالبان وتلاشي نظام حكمها وسقوطه علي يد التحالف الدولي بقيادة أمريكا (2001) لكن طالبان ظلت محتفظة بأدوات التأثير والفاعلية وممسكة بالشوكة الأمر الذي ساعد في عودة الحركة مرة أخري للحكم وبصورة أقوي (2021) ، ومن المصادفات أن رئيس المؤتمر الوطني إبراهيم محمود حامد أكد في لقاء جماهيري عقب عودته من الخارج أن (حركة طالبان دوّخت الأمريكان) .


