مقالات الرأي
أخر الأخبار

تلاقي الزيارتين: كيف يقرأ السودان رسائل العمامرة وأفورقي في لحظة التحديات الكبرى؟

السفير.د.معاوية التوم 

في ظرفٍ بالغ الدقة يعيشه السودان، تزامنت زيارتان لافتتان: زيارة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة رمتان لعمامرة، وزيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى الخرطوم. ورغم اختلاف المنصبين والمهام والسياق، فإن الزيارتين حملتا في جوهرهما تقاطعات استراتيجية تشير إلى أن البلاد أصبحت في قلب إعادة تشكيل واسعة للخرائط الإقليمية والدولية، وأن الحرب السودانية ليست شأنًا داخليًا فحسب، بل جزء من معادلة أمنية ممتدة من البحر الأحمر إلى القرن الإفريقي ومن مجلس الأمن إلى العواصم الخليجية. في قالب يعكس اطراد المزاج الاقليمي والدولي باتجاه تثبيت السردية الوطنية الرسمية لما يجري بانه حرب إقليمية بالوكالة ، فتحليل هاتين الزيارتين يكشف عن تلاقي وازن بين تحرك أممي يسعى إلى إعادة الإمساك بخيوط الملف السوداني من جهة، وتحرك إريتري حذر هدفه حماية التوازنات الإقليمية وتحصين أمن الاقليم والبحر الأحمر من جهة أخرى. وفي العمق، يمكن قراءة الزيارتين بوصفهما تشخيصًا مشتركًا لحجم التحديات التي تواجه الدولة السودانية في هذه اللحظة.

1. أمم متجددة تدخل المشهد من بوابة لعمامرة

عودة الأمم المتحدة عبر مبعوثها الجديد بعد شهر من زيارة المسئول الاول عن الشأن الانساني والطواري توم فليتشر، ليست مجرد نشاط دبلوماسي اعتيادي؛ إنها إعلان عن مرحلة أممية جديدة بعد سنوات من الفتور والاضطراب في العلاقة بين الخرطوم والمنظمة الدولية ، لعمامرة، بخبرته الإفريقية والعربية الواسعة، جاء ليعيد تعريف الحرب السودانية في إطارها الصحيح: صراع إقليمي تُحرّكه تدخلات خارجية واضحة، لا مجرد مواجهة بين طرفين داخل الحدود كما ظلت هذه الرواية في السابق.

هذا التحول في السردية يفتح الباب أمام مقاربة أممية قد ترتكز على:

• تقييم جديد لطبيعة الدعم العسكري الخارجي.

• معالجة واقعية للملف الإنساني بعيدًا عن الضغوط السياسية المنحازة.

• الانفتاح على المؤسسة العسكرية كشريك محوري في أي مسار تفاوضي.

زيارة لعمامرة إذن تحمل رسالة مزدوجة:

إعادة الاعتبار للدولة السودانية، وبناء مسار دولي جديد يتجاوز أخطاء بعثة “يونيتامس”. وياخذ بالتطورات حول رفض السودان للرباعية بوجود الإمارات، وقبول اي هدنة دون ترتيبات تضع التمرد في سياقه الفعلي الصحيح وليس جسما موازيا للجيش.

2. أسمرة تدخل من بوابة الشرق: قراءة إريترية لمعادلات الحرب

في الوقت نفسه، وصول الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى السودان في زيارة تحمل أبعادًا استراتيجية لا تقل وزنًا. بحسبانها إريتريا، الدولة الأكثر التصاقًا بحدود السودان الشرقية، تنظر بقلق بالغ إلى التطورات المتسارعة، خاصة:

• الحديث المتزايد عن التمدد الإماراتي على ساحل البحر الأحمر.

• احتمالات انفلات الأمن في شرق السودان وان كان مستبعدا .

• تأثيرات الحرب على حركة السلاح واللاجئين والتجارة والتهريب.

• مشروع الموانئ البديل في “عصاب وخور الزبير”

• استثمارات ذات بعد أمني حول بورتسودان.

• الدعم أبوظبي المستمر لمليشيا قوات الدعم السريع

بمعنى آخر: فان زيارة أفورقي رسالة موجهة إلى الإمارات قبل أن تكون رسالة إلى السودان تقول : أمن شرق السودان والبحر الأحمر جزء من أمن إريتريا نفسها ، كما يحمل موقفًا متمايزًا من المشروع الإماراتي في المنطقة ومحاولة هندسة إفريقيا ، وهو موقف يقترب في مضمونه من الموقف السوداني الرافض لمحاولات الاختراق عبر الموانئ والتمويل العسكري غير المشروع ، فزيارة أفورقي تُبرز أن إريتريا لا تقف على الهامش؛ بل تريد تثبيت دورها كفاعل إقليمي قادر على التأثير في مصير القرن الإفريقي. فضلا عن علاقة افورقي المميزة مع القيادات السودانية المختلفة ، وإسهامه المستمر في جهود التسويات التي جرت في السابق. .

3. تلاقي الزيارتين: قراءة في المشهد الأوسع

بالنظر إلى السياق الإقليمي والدولي، وتغير المزاج الدولي لصالح السودان، يتضح أن الزيارتين ليستا حدثين متوازيين فقط، بل تتقاطعان في ثلاثة محاور رئيسية:

أولاً: الاعتراف بضرورة دعم الدولة السودانية

كلتا الزيارتين حملتا إشارة صريحة إلى أن تجاوز الدولة السودانية أو محاولة هندسة بدائل سياسية خارج مؤسساتها لم يعد واقعيًا ولا مقبولًا، بما يعزز عدم النزاع على الشرعية .

ثانياً: تحوّل السردية إلى “حرب إقليمية”

في الأمم المتحدة وإريتريا على السواء، يبرز إدراك بأن الحرب ليست صراعًا داخليًا؛ بل مواجهة معقدة تُغذيها أطراف خارجية لها اجندات ومصالح في تفتيت السودان، وأن مستقبل السودان واستقراره سيحدد كثيرًا من التوازنات في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.

ثالثاً: البحث عن استقرار قابل للتمكين

كلا الطرفين يسعى إلى استشراف ترتيبات أمنية وسياسية تسمح بتثبيت الاستقرار، سواء عبر بوابة الأمم المتحدة أو بوابة الجوار المباشر، وتعزيز فرص شبكة امان متناغمة لصالح الاستقرار.

4. السودان في قلب لحظة إعادة الاصطفاف

تدل الزيارتان على أن السودان أصبح ساحة لإعادة هندسة العلاقات الإقليمية، وأنه رغم الحرب المدمرة ما زال يمثل محورًا أساسيًا في معادلة الأمن القومي العربي والإفريقي ، وبينما يعيد لعمامرة وصل الخرطوم بالمجتمع الدولي بعلاقاته الممتدة، يسعى أفورقي إلى إعادة ربط السودان بعمقه الجغرافي في الشرق والقرن الإفريقي لحديقة امامية. وفي هذا التداخل، يتشكل ما يمكن تسميته بـ لحظة إعادة الاصطفاف الكبرى، حيث تبدأ القوى الإقليمية والدولية في مراجعة حساباتها تجاه السودان على نحو ما تفعل اريتريا جواراً واخاءً وقربى .

خاتمة

إن تلاقي زيارة لعمامرة وزيارة أفورقي لا يعبّر عن صدفة بروتوكولية عابرة، بل عن وعي دولي متنامي وادراك إقليمي مشترك بأن السودان في مفترق طرق، وأن استقراره أو انهياره سيعيد رسم خارطة البحر الأحمر والقرن الإفريقي وربما التوازنات العربية الأفريقية بأسرها ، وفي ظل هذه التحديات، تُظهر الزيارتان أن السودان—برغم أزمته وتداعياتها ما زال يحظى باهتمام دولي وإقليمي يرى فيه دولة محورية لا يمكن تجاوزها ، وأن الطريق نحو سلام حقيقي واستقرار دائم يبدأ من إعادة الدولة السودانية إلى مركز المعادلة واستعادة زمام المبادرة في مواجهة التدخلات التي أطالت أمد الحرب وفاقمت من كلفتها البشرية والمادية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى