
السفير.د.معاوية البخاري
المقدّمة:
وسط الإدانات الدولية المتصاعدة لانتهاكات التمرد في دارفور وغيرها، يبرز قرار الاتحاد الأوروبي تسيير جسر جوي للمساعدات إلى الفاشر ، كان ذلك مباشرة او عبر الحدود مع تشاد، يمثل مفارقة كاشفة لا مجرد خطوة إنسانية. فبين خطاب الإدانة وممارسة التجاوز، تتجلى ملامح إنسانية انتقائية مُسيّسة تُدار خارج الدولة، وتُنفَّذ في مناطق خاضعة للتمرد، بما يفتح الباب لتطبيع واقع مفروض بالقوة، وتبييض السلوك المسلح عبر واجهة الإغاثة. هذه المقاربة، التي يعيد السودان تجرّع مراراتها منذ بعثة شريان الحياة على ايام الجفاف والتصحر، وعلى أعقاب بعثتي يوناميد ويونيتامس، تطرح سؤالًا جوهريًا : هل تُنقذ المساعدات المدنيين حقًا، أم تُستخدم كجسر سياسي يتجاوز السيادة ويعيد إنتاج أخطاء التدخل الدولي باسم الإنسانية ؟ ام هي رغبة للتدخل وإدارة الصراع الي مرحلة اعقد ؟ كيف يكافأ التمرد وهو من صنع هذه الاوضاع الانسانية المزرية، ودمر البنيات الأساسية والخدمات ونهب ممتلكات المواطنيين وأفقرهم، وحملهم للهجرة الداخلية قسرياً والي النزوح، وعطل دولاب العمل وخرّب المواسم الزراعية والمدن الصناعية، واضطرهم للجوء الي دول الجوار ؟ ، فهذه الاسئلة وغيرها تحتاج اجابات عاجلة، ومساعداتهم بهذا الشكل المسيء ستقود الي تبعات ماكرة يضمرها الاتحاد الاوربي من وراء جسره السياسي بعواقب وخيمة على البلاد !
١/ التوقيت ومدلوله ؛ إذن التوقيت ليس بريئًا، بل مرتبط بتحولات ميدانية وسياسية، ومحاولة تثبيت وقائع جديدة على الأرض قبل أن تُحسم المعركة السياسية أو العسكرية. تنفيذ جسر جوي دون تنسيق مع اجهزة الدولة ومؤسساتها الي مدينة خارج سيطرتها، يعد تجاوزا يحمل رسالة سياسية مقصودة وهذا يعيد إنتاج منطق :
• تدويل الأزمة وأطر الحل
• نزع السيادة تحت غطاء إنساني
• إضعاف متعمد للشرعية الوطنية
رسالته الأخطر مفادها :
أن الدولة السودانية غير موجودة أو غير مؤهلة او قادرة، ويمكن القفز فوقها إنسانيًا.
٢/ الإنسانية دون كرامة… وصفة للفشل
فالسودانيون لا يرفضون المساعدة، لكنهم يرفضون :
• الإغاثة التي تُقدَّم كبديل عن الدولة
• أو التي تُدار من فوق رؤوسهم
• أو التي تُوظف لإعادة هندسة المشهد العسكري والسياسي والأمني
لقد أثبتت تجارب شريان الحياة ويوناميد ويونيتامس أن : أي تدخل لا يحترم السيادة، ولا يبني على المؤسسات، ولا ينطلق من رؤية وطنية،سينتهي بتعقيد الأزمة لا حلّها.
٣/ من يوناميد إلى يونيتامس :
هل يعيد الجسر الجوي الأوروبي أخطاء التدخل الدولي في السودان؟
أعاد قرار الاتحاد الأوروبي تسيير جسر جوي للمساعدات الإنسانية إلى مدينة الفاشر، خارج إطار التنسيق المعلن مع الدولة السودانية، فتح ملف شائك في الذاكرة الوطنية السودانية، ظل حاضرًا منذ تجربتي بعثتي يوناميد ويونيتامس، حيث اختلط الإنساني بالسياسي، ودُفعت السيادة الوطنية أثمانًا باهظة تحت لافتة “حماية المدنيين”، والحرب تقارب عامها الثالث ، لا خلاف على فداحة الوضع الإنساني في الفاشر وغيرها من مدن وأرياف دارفور وكردفان، ولا على حق المدنيين في الإغاثة العاجلة ، غير أن سؤال التوقيت والآلية يظل جوهريًا. فالفاشر كانت تحت حصار فعلي لأكثر من ثمانية عشر شهرًا ، ورفضت المليشيا المسيطرة مرارًا الهدن الإنسانية التي طالب بها أمين عام الامم المتحدة، بينما كانت غالب مدن السودان وأريافه تعيش أوضاعًا إنسانية كارثية مماثلة، دون أن يُقابل ذلك بتحركات دولية استثنائية من هذا النوع ، فتجربة السودان مع بعثة يوناميد في دارفور تمثل مثالًا صارخًا على فشل التدخل الدولي حين يُدار خارج منطق الدولة ، فقد دخلت البعثة بتفويض حماية المدنيين، لكنها لم تنهِ الصراع، بل أسهمت عمليًا في إدارته، وأنتجت واقعًا ميدانيًا موازيا أضعف حضور الدولة، وكرّس التعامل مع الجماعات المسلحة كأمر واقع، دون تحقيق الأمن أو العدالة للضحايا ، أما بعثة يونيتامس، التي جاءت في سياق سياسي مختلف عقب ثورة ديسمبر، فقد تمدد دورها من الدعم الفني إلى التأثير المباشر في العملية السياسية بالإرباك السياسي والهشاشة ، مع عجز واضح عن استيعاب تعقيدات المشهد السوداني. وعندما اندلعت الحرب، انكشفت محدودية هذا النهج، وانسحبت البعثة عمليًا، تاركة فراغًا سياسيًا وإنسانيًا عمّق أزمة الثقة السودانية تجاه المقاربات الدولية، وفي هذا السياق، يُقرأ الجسر الجوي الأوروبي إلى الفاشر بوصفه إعادة إنتاج للنمط ذاته: تجاوز الدولة، والتعامل مع واقع فرضته المليشيا، وتقديم المساعدات كبديل عن المؤسسات الوطنية، لا عبرها، وهو مسار يحمل مخاطر واضحة، أبرزها إضعاف مفهوم السيادة، وتشجيع أطراف التمرد على استخدام المدنيين كورقة تفاوض، وفتح الباب أمام تدويل أوسع للأزمة تحت عناوين إنسانية ، فالسودانيون لا يرفضون المساعدات، لكنهم يرفضون الإنسانية المُسيّسة التي تُدار من خارج الدولة وتُوظف لإعادة تشكيل المشهد السياسي والأمني. فقد أثبتت تجربتا يوناميد ويونيتامس أن أي تدخل لا يحترم السيادة، ولا يدعم بناء المؤسسات الوطنية، ولا ينطلق من رؤية شاملة للبلاد، سينتهي إلى تعقيد الأزمة بدل حلها.
إن إنقاذ المدنيين في الفاشر، وفي سائر أنحاء السودان، لا يتحقق عبر جسور جوية تتجاوز الدولة، بل عبر مقاربة متوازنة تضغط على المليشيات للقبول بالهدن الإنسانية ًفتح الممرات ، وتُنسق مع المؤسسات الوطنية، وتُعيد الاعتبار للدولة باعتبارها الإطار الوحيد القادر على ضمان استدامة العمل الإنساني وحماية كرامة المواطنين.
٤/ هذا النهج تبييض العمل الإنساني
وسط الإدانات الدولية المتكررة لانتهاكات المليشيا في دارفور والفاشر تحديدًا وقللها الجنينة ونيالا ، يثير الجسر الجوي الأوروبي تساؤلًا مشروعًا حول ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمة السودانية. فبينما تُدان الجرائم لفظيًا، تُتخذ خطوات عملية تتجاوز الدولة وتُدار في مناطق خاضعة للتمرد، بما يُفضي عمليًا إلى تبييض السلوك المسلح عبر واجهة إنسانية انتقائية، تُغفل السياق الكامل للأزمة، وتُضعف مسارات المساءلة، وتحوّل الضحية إلى أداة سياسي
٥/المخاطر المترتبة على هذا المسار
1. إضعاف مفهوم الدولة كمُنظم وحيد للعمل الإنساني.
2. تشجيع المليشيات على استخدام المدنيين كورقة تفاوض.
3. فتح الباب لتدويل أوسع تحت عناوين إنسانية.
4. تقويض الحلول الوطنية وإفراغها من مضمونها.
5. تحويل المساعدات إلى أداة نفوذ سياسي.
٦/ما هي خطوط الدولة في التعامل مع هذا التدخل؟
في مواجهة هذا النمط من التدخل، تمتلك الدولة السودانية – إن أحسنت إدارة الملف – مجموعة من الخطوط الحاكمة التي لا تتعارض مع العمل الإنساني، ولا المواثيق الدولية المنظمة له،لكنها تحمي السيادة الوطنية، أبرزها :
1. التأكيد العلني على أن الدولة ليست ضد الإغاثة، بل ضد تجاوزها، مع الترحيب بأي دعم إنساني يتم عبر القنوات الرسمية.
2. اشتراط التنسيق الكامل مع الجهات الحكومية المختصة في تحديد الاحتياجات، التخطيط والتنفيذ والية التوزيع.
3. رفض أي عمليات إنسانية في مناطق التمرد دون ضمانات صارمة تمنع استفادة المليشيا سياسيًا أو لوجستيًا.
4. ربط العمل الإنساني بالضغط من أجل هدن إنسانية حقيقية تضمن الوصول الآمن والمتوازن لكل المحتاجين.
5. توثيق أي تجاوزات أو انتقائية ورفعها للمنظمات الدولية والإقليمية كملف سيادي لا إعلامي فقط.
6. إعادة طرح تجربة يوناميد ويونيتامس كدروس رسمية في كل حوار مع الشركاء الدوليين، لتأكيد رفض إعادة إنتاج الفشل.
7. توسيع الشراكا الإنسانية مع أطراف تحترم السيادة وتعمل على أساس الحاجة الوطنية الشاملة لا الانتقائية الجغرافية أو السياسية.
خاتمة
إن أخطر ما في “الإنسانية المُسيّسة” ليس ما تقدمه من مساعدات، بل ما تخلقه من سوابق. فحين تُستخدم الإغاثة لتجاوز الدولة، وتُمارس بانتقائية تتجاهل السياق والانتهاكات، فإنها تتحول من أداة إنقاذ إلى أداة تبييض، ومن واجب أخلاقي إلى أداة نفوذ. والسودان، بتجاربه المريرة، لم يعد يحتمل تكرار الدروس ذاتها دون أخذ العبر منها. والشواهد من حولنا ماثلة في الاقليم وخارجه ، إن الجسر الجوي الأوروبي إلى الفاشر على محدوديته لجهة الإعانات المتأخرة جدا، يعد خطوة متقدمة في التدويل خارج التنسيق الوطني، وليس خطوة إنسانية خالصة، بل حلقة جديدة في سلسلة المؤامرات والتدخلات الدولية التي لن ولم تُنتج سلامًا مستدامًا للسودان.
والدرس الذي لم يتغير منذ شريان الحياة يوناميد حتى اليوم هو أن:
الطريق إلى إنقاذ المدنيين لا يمر بتهميش الدولة، بل بإعادة بنائها وتمكينها ، وما لم تُراجع هذه المقاربات، فإن السودان سيظل يدفع ثمن “الإنسانية المُسيّسة”، مرة بعد مرة.



